أثار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب جدلًا واسعًا بعد تصريحه الأخير الذي أكّد فيه أن «المواقع النووية في إيران دُمّرت بالكامل»، في إشارة إلى قدرات طهران النووية وبرنامجها المثير للجدل. جاءت هذه التصريحات أثناء لقاء جماهيري في ولاية فلوريدا، حيث تحدث ترامب مطولًا عن سياسته تجاه إيران حين كان في البيت الأبيض، وألمح إلى أن الضربات «كانت دقيقة وحاسمة» وأنها «حرمت إيران من إمكانات تخصيب اليورانيوم للأبد». وتأتي التصريحات في توقيت حساس يشهد توترًا إقليميًا وتصعيدًا في الخطاب بين طهران وواشنطن، بالتزامن مع محاولات القوى الكبرى إعادة إحياء الاتفاق النووي أو إيجاد بديل دبلوماسي يضمن سلمية البرنامج الإيراني.
يرى مراقبون أن ترامب حاول في كلمته الأخيرة تأكيد نجاح استراتيجيته القائمة على «الضغط الأقصى»، والذي تبناه خلال فترة رئاسته، كتفسير لأسباب انهيار أو تعطّل مشروع إيران النووي. وقد اختار كلمات صريحة لا تحتمل التأويل عندما قال: «ليطمئن العالم، لم يعد بإمكان النظام الإيراني العودة إلى نقطة البداية؛ مواقعهم ذهبت بلا رجعة». لكن هذا التأكيد لا تدعمه بيانات رسمية من وزارة الدفاع الأمريكية أو أجهزة الاستخبارات، كما لم تُصدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أي تقرير يؤيد حدوث دمار شامل في منشآت إيران النووية.
من جهتها، نشرت وزارة الخارجية الإيرانية بيانًا مقتضبًا وصفت فيه تصريحات ترامب بأنها «مزاعم لا أساس لها»، مؤكدة أن الأنشطة النووية في البلاد تحت إشراف الوكالة الدولية، وأن الكاميرات المثبتة في المواقع ما زالت ترصد كل حركة، وهو ما يدحض سيناريو الدمار الكلي. وألمح البيان إلى أن «مثل هذه الادعاءات تهدف إلى تضليل الرأي العام الأمريكي قبل الانتخابات الداخلية»، معتبرًا أن طهران ما تزال تحتفظ بحق الرد السياسي والقانوني على «أي عدوان حقيقي أو مزيف». اللافت أن التصريح الإيراني تجنب الكشف عن أية تفاصيل تقنية، ربما تفاديًا لإعطاء خصومها معلومات دقيقة عن وضع منشآتها.
على الصعيد الأمريكي الداخلي، انقسم المشهد بين مؤيد ومعارض. فقد رحب قطاع من أصوات الحزب الجمهوري بتصريحات ترامب، معتبرين أنها تؤكد نجاح سياسته المتمثلة في الضغوط القصوى والعقوبات الاقتصادية الصارمة. وأشاد بعض الأعضاء السابقين في إدارته بما أسموه «عمليات دقيقة خلف ستار السرية»، فيما شكك خبراء استراتيجيون مستقلون في دقة هذه الادعاءات، لافتين إلى أن أي عملية بهذا الحجم كانت ستحتاج إلى غطاء سياسي وعسكري لا يمكن إخفاؤه عن الإعلام أو الكونغرس.
أما الديمقراطيون، فاستغلوا الموقف لتوجيه انتقادات لاذعة للرئيس السابق، بوصفه «يبالغ في إنجازات غير متحققة لأغراض انتخابية». وأشار بعضهم إلى أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية لم تقدم سابقًا أي إشارة حول هجمات مدمرة من هذا النوع، وأن إيران لا تزال قادرة على تخصيب اليورانيوم بنسب مرتفعة نسبيًا وفقًا لتقارير رسمية ظهرت بعد انتهاء ولاية ترامب.
في العواصم الأوروبية، جاءت المواقف أكثر تحفظًا. فقد اكتفت كل من لندن وباريس وبرلين بتأكيد «أهمية العودة إلى المسار الدبلوماسي»، دون التعليق مباشرة على تصريحات الرئيس الأمريكي السابق. بينما رحبت إسرائيل، وفق تصريحات غير رسمية، بأي ضربات «قد تقلص من قدرات إيران النووية»، لكنها لم تؤكد وقوعها، مكتفية بإشارتها الدائمة إلى ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي «بكل الوسائل الممكنة». في حين دعت روسيا والصين إلى التحقق من الادعاءات عبر القنوات الدبلوماسية، والتشديد على دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مراقبة الأنشطة الإيرانية.
منذ انسحاب إدارة ترامب في مايو 2018 من الاتفاق النووي الموقع عام 2015، ارتفعت وتيرة التوتر بين طهران وواشنطن، وتم فرض عقوبات اقتصادية قاسية، أدى إلى اهتزاز الاقتصاد الإيراني. وردًا على ذلك، بدأت إيران رفع مستوى التخصيب تدريجيًا، متجاوزة الحدود المنصوص عليها في الاتفاق. وبعد تولي إدارة أمريكية جديدة مطلع 2021، جرت محاولات لإحياء الاتفاق، لكنها تعثرت بفعل شروط متبادلة وملفات إقليمية أخرى. في هذا السياق المضطرب، تبدو تصريحات ترامب بمثابة إعادة فتح جبهة سياسية حول الملف النووي الإيراني بهدف إبراز دوره في أمن الشرق الأوسط.
تثير هذه التصريحات جملة من السيناريوهات المتوقع أن تؤثر في مجمل الوضع الإقليمي:
تصعيد كلامي دون خطوات عملية: قد تبقي واشنطن وطهران على مستوى مرتفع من الخطاب السياسي دون مواجهة عسكرية، لتجنب تكلفة الحرب والحفاظ على قنوات دبلوماسية مفتوحة.
عودة طاولة المفاوضات بضغوط أكبر: قد تستخدم القوى الكبرى هذه التصريحات كعصا دبلوماسية لدفع إيران لتقديم تنازلات إضافية، مقابل تخفيف العقوبات أو ضمانات أمنية.
حشد إقليمي وتلويح بالقوة: مع أي إشارات استخباراتية تؤكد أو تنفي الضرر بالمواقع الإيرانية، يمكن أن تشهد المنطقة حراكًا عسكريًا محدودًا لتأكيد الجهوزية، ما قد يرفع مخاطر الاشتباك المباشر.
هجمات سيبرانية متبادلة: ترجّح بعض التقارير أن يتجه الطرفان إلى الساحة السيبرانية لتبادل الرسائل من خلال تعطيل منشآت البنية التحتية الحساسة بدلاً من ضربات تقليدية.
تُعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية الجهة الوحيدة المخولة بإصدار تقارير فنية عن أضرار أو توقف في المواقع النووية الإيرانية. وقد التزمت الوكالة حتى اللحظة الصمت، مكتفية بالإشارة إلى استمرار عمليات التفتيش الميداني الدورية. فإذا ثبت بالفعل تدمير منشآت رئيسية، سيظهر ذلك في تقاريرها الفصلية المقبلة، ما سيضع كل الأطراف أمام وقائع جديدة. أما إذا لم تُسجل تغييرات كبيرة في مستوى نشاط إيران النووي، فستضطر الأطراف المشككة إلى إعادة تقييم تصريحات ترامب على أنها أقرب إلى التجاذبات السياسية منها إلى الحقائق الميدانية.
على الصعيد الداخلي، قد تستغل طهران الموقف لتعزيز شعور الوحدة الوطنية في مواجهة «الاستهداف الخارجي». الإعلام الرسمي الإيراني لمّح إلى أن تصريحات ترامب محاولة لإثارة البلبلة الداخلية، وطالب المواطنين بعدم الالتفات إلى ما وصفه بـ«الأكاذيب الانتخابية». في الوقت نفسه، قد يدفع الحرس الثوري إلى تصعيد خطاب القوة واستعراض صواريخ أو أنظمة دفاع جديدة، للتأكيد على بقاء القدرات الدفاعية رغم أي ضربات مزعومة.
يخشى مراقبون من أن تؤثر هذه التصريحات في أسواق النفط والغاز، إذ تؤجج مخاوف حدوث مواجهة قد تقطع أو تقلّص إمدادات الطاقة عبر الخليج. حتى الآن، اكتفت الأسواق بحركة محدودة في الأسعار، لكن أي تأكيد من مصدر رسمي حول ضرب منشآت نووية قد يرفع الأسعار بسرعة بسبب عامل المخاطرة الجيوسياسية.
سواء كانت تصريحات ترامب مبنية على معلومات دقيقة لم تُعلن رسميًا، أو مجرد ورقة ضغط سياسية، فإنها تعيد ملف إيران النووي إلى الواجهة الدولية. في ظل غياب دليل موثق أو اعتراف رسمي من الجهات الرقابية، يبقى حكم الحقيقة مرهونًا بما ستكشفه الأيام القادمة من تقارير ميدانية وتحركات دبلوماسية. وبينما تواصل الحكومات تحركاتها، يبقى المواطن الإقليمي والعالمي متيقظًا لأي تداعيات على الاقتصاد والأمن في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt