في اللحظات الأخيرة التي تسبق دفن الأحبة، تتزاحم المشاعر وتختلط الأحزان بالعبرات، وتبرز تساؤلات عديدة تتعلق بكيفية توديع الميت. من بين هذه التساؤلات التي تشغل أذهان الكثير من المسلمين: هل يجوز كشف وجه الميت لتقبيله وتوديعه بعد الوفاة؟ وهل هذا التصرف يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؟ وماذا لو تم تكفين المتوفى بالفعل، فهل يصح كشف وجهه مرة أخرى؟
هذه المواقف تتكرر في كل بيت تقريبا مر بحالة وفاة، ويتردد الأهل بين العرف والعاطفة من جهة، والشرع والدين من جهة أخرى. فالحرص على وداع الميت وتقبيله قد يكون بدافع المحبة والتقدير، لكن الفقه الإسلامي وضع قواعد واضحة للتعامل مع الميت من حيث التكفين والتغسيل والتشييع. وبين الخوف من الوقوع في مخالفة شرعية، والرغبة في إلقاء نظرة الوداع الأخيرة، تتطلب المسألة توضيحًا من أهل الفتوى والاختصاص.
أوضحت دار الإفتاء المصرية أن الأصل في الأمر هو احترام حرمة الميت، وأن جسده له من التكريم ما لا يجوز الاعتداء عليه أو التعامل معه بما يتنافى مع كرامته. ولكن، فيما يخص كشف وجه الميت لتوديعه وتقبيله، فإن الشريعة الإسلامية لم تمنع ذلك صراحة، بل وردت بعض الأحاديث والآثار التي تشير إلى جواز هذا الفعل.
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون بعد وفاته، وقال عنه: "رحمك الله أبا السائب"، وهذا الحديث يستخدمه العلماء كدليل على جواز تقبيل الميت قبل دفنه. ومن هنا فإن تقبيل الوجه أو الجبين أو اليد قبل الدفن ليس فيه حرمة شرعية، بل يُعد من مظاهر التوديع المشروع التي تعكس الحب والوفاء.
تتساءل بعض الأسر: إذا تم تكفين الميت وربط الكفن عليه، فهل يصح فتح الكفن مرة أخرى لكشف وجهه وتوديعه؟ وهنا أجابت دار الإفتاء بأن الأصل في الكفن هو ستر جسد الميت، وإذا كان هناك ضرورة إنسانية أو عاطفية كإلقاء نظرة الوداع من أقارب الدرجة الأولى أو تقبيله، فلا مانع من كشف وجهه ثم إعادة تكفينه بإحكام.
وأكدت الدار أنه لا توجد كراهة شرعية في فتح الكفن لغرض مشروع كالوداع، طالما أن ذلك يتم في إطار من الاحترام والسكينة، دون صياح أو شق للجيوب أو أي من مظاهر الجاهلية في الحزن، والتي نهى عنها الشرع بشكل صريح.
رغم إباحة كشف الوجه للوداع، فإن هناك حالات يكون فيها هذا التصرف مكروهًا أو غير جائز، وهي الحالات التي قد تؤدي إلى إيذاء مشاعر الآخرين أو انتهاك كرامة المتوفى. ومن أبرز هذه الحالات:
إذا كان وجه المتوفى مشوهًا أو يحمل آثار إصابات بليغة.
إذا تم التكفين بطريقة محكمة وكان فتح الكفن قد يسبب كشفًا لعورته أو يثير اضطرابًا نفسيًا للحاضرين.
إذا تم فتح الكفن بعد مرور وقت طويل من الوفاة، مما قد يعرض الجسد للتغيرات الطبيعية.
في مثل هذه الحالات، يُفضل الاكتفاء بالدعاء وقراءة الفاتحة على الميت، دون الحاجة إلى كشف وجهه.
شرعت الشريعة الإسلامية آدابًا واضحة في التعامل مع الميت، تبدأ من تغسيله وتكفينه، مرورًا بالصلاة عليه، وانتهاءً بدفنه. ومن المهم أن يتم توديع الميت في إطار هذه الضوابط، دون تجاوزها. وقد بيّن العلماء أن من أفضل ما يُهدى للميت عند الوداع هو الدعاء له، وقراءة القرآن، والاستغفار، والصدقة عنه.
أما عن تقبيله أو لمسه، فهو أمر جائز إذا تم قبل الدفن، ولم يترتب عليه كشف العورة أو إيذاء الجثمان. ويُفضل أن يتم ذلك بهدوء ووقار، دون نياحة أو أصوات مرتفعة.
سؤال آخر يتكرر كثيرًا، خاصة في حالات وفاة أحد الأقارب من الذكور. أجابت دار الإفتاء بأنه لا مانع من تقبيل المرأة لقريبها المتوفى، كأب أو أخ أو ابن، طالما أنه من محارمها. ويشترط لذلك أن يكون في أجواء تحفظ السكينة والهدوء، وألا يتسبب ذلك في إثارة مشاعر قد تؤدي إلى نياحة أو سلوك غير محمود.
أما إن كان الميت رجلًا أجنبيًا، فلا يجوز للمرأة غير المحرمة منه أن تقترب منه أو تقبّله. وينطبق الأمر ذاته على الرجال غير المحارم من النساء.
رغم أن الإسلام لم يفرض أو يوجب تقبيل الميت، إلا أن فعله من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على جوازه، بل واحتوائه على معانٍ إنسانية نبيلة. فالتقبيل في هذه اللحظات يكون ترجمة صادقة للحب والحنين، ووسيلة لتفريغ الشحنة العاطفية التي ترافق لحظة الفقد.
كما أن تقبيل الميت يُعد توديعًا أخيرًا له قبل انتقاله إلى القبر، ويمثل لحظة روحية خالصة تجمع بين الفقد والحب والرجاء في لقاءٍ آخر في دار الحق.
لا يوجد نص صريح من السنة النبوية يُقرّ أو يُنكر كشف الوجه عند وضع الميت في القبر. وما عليه جمهور العلماء أن الميت يُدفن مكفّنًا بالكامل، دون كشف وجهه في القبر، وذلك صيانة له وحفاظًا على كرامته.
لكن إذا تم كشف وجه الميت داخل القبر قبل وضعه، كنوع من التوديع الأخير، فلا إثم في ذلك ما دام لم يُصاحب الفعل محظورات شرعية.
التزام الهدوء والسكينة عند توديع الميت وعدم رفع الصوت بالبكاء.
تجنّب التصوير أو التقاط مقاطع فيديو للجنازة أو التوديع.
عدم التزاحم حول الجثمان، والسماح للأقارب المباشرين بتوديعه أولًا.
الدعاء للميت وقراءة ما تيسر من القرآن في هذه اللحظة.
إعادة إحكام الكفن بعد الكشف إذا تم ذلك للوداع.
إن مسألة كشف وجه الميت لتوديعه لا تخرج عن إطار المباحات في الشريعة الإسلامية، ما دامت تتم بضوابط شرعية تحفظ كرامة الميت ومشاعر أهله. وقد أكد العلماء ودار الإفتاء أن التوديع باللمس أو التقبيل جائز، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لذلك.
ومع ذلك، يبقى الدعاء والاستغفار والعمل الصالح هما أنفع ما يُقدّم للميت بعد وفاته، فهما الباقيان في ميزان حسناته، وهما السبيل لاستمرار البر والوفاء بعد رحيله. ولعلنا جميعًا نحتاج أن نودّع أحبتنا بما يرضي الله ويخفف عنهم في قبورهم، لا بما يرضي العاطفة وحدها.
جميع الحقوق محفوظة 2024 © | MedMarkt